الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (30- 31): يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الأبناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الأعمال الشاقة. {مِنْ فِرْعَوْنَ} بدل من {الْعَذابِ الْمُهِينِ} فلا تتعلق {من} بقوله: {مِنَ الْعَذابِ} لأنه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. {إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الإسراف، كقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 4]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله. .تفسير الآية رقم (32): قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ} يعني بني إسرائيل. {عَلى عِلْمٍ} أي على علم منا بهم لكثرة الأنبياء منهم. {عَلَى الْعالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الامة: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الأرض بعد فرعون. .تفسير الآية رقم (33): قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ} أي من المعجزات لموسى. {ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ} قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث- إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به، قاله عبد الرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله: {بَلؤُا مُبِينٌ} أربعة أوجه: أحدها- نعمة ظاهرة، قاله الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17]. وقال زهير: الثاني- عذاب شديد، قاله الفراء. الثالث- اختيار يتميز به المؤمن من الكافر، قاله عبد الرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة، ثم قرأ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. .تفسير الآيات (34- 36): قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ} يعني كفار قريش {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى} ابتداء وخبر، مثل {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]، {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا} [المؤمنون: 37] {وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} أي بمبعوثين. {فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا، أحدهما- قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات، لان الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء، فلم لا يرجع من مضى من الآباء، حكاه الماوردي. ثم قيل: {فَأْتُوا بِآبائِنا} مخاطبة وللنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، كقوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولاتباعه. .تفسير الآيات (37- 39): قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هذا استفهام إنكار، أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب، إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمى كل واحد منهم تبعا لأنه يتبع صاحبه. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل، وقال: والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت، وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع، قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش، هو ابن همال ذي سدد. وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الإذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى إفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات أن الله سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره، ولذلك قال عليه السلام: «ولا أدري أتبع لعين أم لا». ثم قد روي عنه أنه قال: «لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا» فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه، وهووالله أعلم- أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنهم مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه: وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء- ويقال بناحية حمير- في الإسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب هذا قبر حبي ولميس ويروى أيضا: حبي وتماضر، ويروى أيضا: هذا قبر رضوى وقبر حبي ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شي، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الأولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام. ثم ختم الكتاب ونقش عليه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وكتب على عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من تبع الأول. وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف سنة لا يزيد ولا ينقص. واختلف هل كان نبيا أو ملكا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها، حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات. وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم، فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم- لأنهم كانوا مجرمين- كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لأنه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ} {الذين} في موضع رفع عطف على {قَوْمُ تُبَّعٍ}. {أَهْلَكْناهُمْ} صلته. ويكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} متعلقا به. ويجوز أن يكون {مِنْ قَبْلِهِمْ} صلة {الَّذِينَ} ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان {أَهْلَكْناهُمْ} على أحد أمرين: إما أن يقدر معه {قد} فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف، كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ابتداء خبره {أَهْلَكْناهُمْ}. ويجوز أن يكون {الَّذِينَ} في موضع جر عطفا على {تُبَّعٍ} كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون {الَّذِينَ} في موضع نصب بإضمار فعل دل عليه {أَهْلَكْناهُمْ}. والله أعلم. قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين، وهو قول الكلبي. {وما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا بالأمر الحق، قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق، قاله الكلبي والحسن. وقيل: إلا لإقامة الحق وإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في {الأنبياء}. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني أكثر الناس. {لا يَعْلَمُونَ} ذلك. .تفسير الآية رقم (40): {يَوْمَ الْفَصْلِ} هو يوم القيامة، وسمي بذلك لان الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. دليله قوله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]. ونظيره قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]. ف {يَوْمَ الْفَصْلِ} ميقات الكل، كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً} [النبأ: 17] أي الوقت المجعول لتمييز المسيء من المحسن، والفصل بينهما: فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. ولا خلاف بين القراء في رفع {مِيقاتُهُمْ} على أنه خبر {إن} واسمها {يَوْمَ الْفَصْلِ}. وأجاز الكسائي والفراء نصب {ميقاتهم}. ب {إن} و{يَوْمَ الْفَصْلِ} ظرف في موضع خبر {إن}، أي إن ميقاتهم يوم الفصل. .تفسير الآيات (41- 42): قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً} {يوم} بدل من {يوم} الأول. والمولى: الولي وهو ابن العم والناصر. أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه. {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته. ونظير هذه الآية {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] الآية. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} {من} رفع على البدل من المضمر في {يُنْصَرُونَ}، كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان. أو على الابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: إلا من رحم الله فمغفور له، أو فيغني عنه ويشفع وينصر. أو على البدل من {مَوْلًى} الأول، كأنه قال: لا يغني إلا من رحم الله. وهو عند الكسائي والفراء نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من يغنيهم من المخلوقين. ويجوز أن يكون استثناء متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه، كما قال: {شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فقرن الوعد بالوعيد.
|